قراءة في رسالة الملك عبد العزيز لمن يراه من المسلمين عام ١٣٦٠هـ

تكبير الخط تصغير الخط

كانت عشر الخمسينات من القرن الهجري الماضي من أسوأ ما ألم بالسعودية بعد اكتمال تأسيسها من عقود ، فقد حدثت فيها عدة مجاعات وقحط وعدد من الأمراض المعدية ،وبعض ذلك كان جرَّاء الحرب العالمية التي تعطلت بسببها الملاحة البحرية وضعف الحج والعمرة اللذان كانا يشكلان مورداً مهماً للدولة آنذاك.

وكان آخر الأمراض مرض الجدري الذي عصف بالبلاد ومات بسببه آلاف الناس حتى إنه أفنى قرى بكاملها .

جاء بعد ذلك عام ١٣٦٠ وكان فيه من الخير الشيء العظيم فانتشرت الأمطار وبدأ إنتاج النفط بكميات مبشِّرة في حقل الدمام واكتُشفت آبار نفط جديدة ، وقَدَّمت الدولة مساعدات للمواطنين ، ووصلت لقاحات الجُدَري إلى جميع المدن والقرى والهجر، لذلك سُمِّي ذلك العام الجميل بأسماء عديدة تدل على الأحداث التي جرت فيه ، منها سنة جَبَّار ، لأنه عام جبر الناس بعد انكسارهم ، ومنها سنة العيش ، لأن البر وُجد بعد انقطاع ، ومنها سنة الذرة الحمراء حيث ورد من البحر ذرة في حالة رديئة لكن الناس تقبلوها لمسيس الحاجة ، ومنها سنة الوتنة ، أي التطعيم ضد الجدري ،ومنها سنة السَّلَفِيَّة لأن الحكومة سَلَّفَت أي أقرضت الناس لغرض الزراعة ، وقيل إن السلفية بدأت من عام ١٣٥٨.

الحاصل أنها كانت سنة فرج بعد بأساء مضرة ؛ وقد بذل الملك عبدالعزيز رحمه الله في عشر الخمسين جهوداً كبيرة للحصول على المال لتخفيف المعاناة عن شعبه ، لكن الضائقة كانت أكبر من الجهود إلى أن جاء الله تعالى بالرزق والفرج من عنده .

في هذا التوقيت وكما تَحَمَّل الملك مسؤوليته في الوقوف مع مواطنيه في تلك الضائقة موقف الحاكم المشفق على رعيته ، لم يَفُتْه أن يقف معهم وقت إنعام الله تعالى عليهم موقف الدعاية المربي الواعظ  ، إذ رأى ضرورة أن يتعلم الناس كيف يستقبلون نعمة الله تعالى وكيف يستدبرون نقمته ، ولعله أدرك بثاقب بصيرته أن هذه السنة لن يدرك الوطن بعدها أيام بأساء لعقود طويلة وهو ما كان نسأل الله دوام النعمة واستدامة أسبابها ؛ فكتب بهذه المناسبة رسالة افتتحها بقوله :” من عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل إلى من يراه من إخواننا المسلمين” واختيار توصيف المخاطبين بانتسابهم للدين الذي هو الرابطة الأعظم والآصرة الأقوى يدل على أن المضمون القادم سيكون خطاباً وعظياً يُخاطب نزعة التدين فيهم ، وهي نزعة تُشَكِّل في قلبه رحمه الله مُحَرِّكاً قوياً لكل ما قام به طول حياته من جهود سواء أكانت سياسية أو عسكرية أو اجتماعية ، ولا شك أنه كان لهذا المحرك أثره العظيم في كل نجاحاته ، كما عبر هو في كلمة له أخرى قال ضمنها:”ولقد فتحت هذه البلاد ولم يكن عندي من الأعتاد سوى قوة الإيمان وقوة التوحيد ، ومن التجدد غير التمسك بكتاب الله وسنة رسوله ،فنصرني الله نصراً عزيزا” فالإسلام عند الملك عبدالعزيز ليس ديناً شخصياً ، وإنما هو رابطة يخاطب بها شعبه ليُشعرهم بقربه منهم أكثر بما هو أكثر تأثيراً على نفوسهم من أي رابطة أخرى ، وهو سبب للنصر والخير والتوفيق .

وفي الرسالة محل قراءتنا بعد أن يُقَدِّم بأن الإسلام هو أعظم النعم والمنن الإلهية ، يُذَكِّر بالعام الماضي ١٣٥٩ومافيه”من الشدة واللأي على البادية والحاضرة” ويُذَكِّر بما فيه البلاد خارج المملكة” من الحرب والشِّدَّة التي لا تقاس” ويقارنها بما فيه السعودية حال كتابته الرسالة -ربيع الآخر ١٣٦٠- من النِّعم وأعظمها نعمة الإسلام ؛ لكنه لا يتحدث عن الإسلام الذي هو دعوى مجردة يستطيعها كل أحد ، وإنما الإسلام الكامل الذي هو قول وعمل واعتقاد، وحسب تعبيره هو : “عبادة الله وحده لاشريك له ، والإخلاص في العمل باطناً وظاهرا ،والقيام بأوامر الله من أمر ونهي ، والمحبة في الله والمعاداة في الله ، والنصح فيما بينكم باطنا وظاهرا ،وترك القال والقيل والغيبة والنميمة والحسد وإظهار الشكر لله ، والاعتراف بأن الشكر هو من فضل الله ” هذا هو الإسلام الكامل الذي يريد عبد العزيز أن تكون عليه رعيته ، إسلام يملك عليها قلوبها وعقولها وعواطفها وسائر أعمالها  ، وفهم هذا الإسلام والعمل به وشكر الله عليه هو المقدم أولاً” ثم تفهمون ما مَنَّ الله به عليكم من الأمن والصحة مثل ما ترون العام الماضي من الشدة” 

وهذا التغيير من العسر إلى اليسر يقتضي فعل أمور كثيرة بها وحدها يمكننا المحافظة على هذه النعم حتى لا تزول ،ومن ذلك كما قال رحمه الله ” وجب علينا القيام على أنفسنا بالخضوع والتضرع والشكر لرب العزة “ 

وبما أن هذا التغير حدث لنا بفضل تمسكنا بالدين فإن إخواننا المسلمين في حاجة ماسة ليغير الله مابهم كما غير ما بنا ، لذلك فمن واجباتنا تجاه ما أنعم الله به علينا ” نصيحة إخواننا المسلمين” فكل ذلك من الشكر المقتضي لزيادة النعمة كما “إن الله سبحانه ، يقول:(ولئن شكرتم لأزيدنكم ” .

وكثير من الناس إذا جاءهم الباس تضرعوا لله وخافوا منه لكنهم ينشغلون بأمر الدنيا وجمعها ويجترئون على التقصير في الطاعة؛ بل والمعصية حين يُفَرِّج الله كربهم ، فيقول الملك رحمه الله راداً على هؤلاء ومحذراً شعبه من أن يكونوا مثلهم :”والحقيقة : أن هذا وقت الخوف والإنابة والشكر وسؤال الله سبحانه بقول :يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”.

ثم يؤكد رحمه الله أنه بعد ذوق هذه النعمة عَلِمَ عن بعض شعبه شيئاً من التمادي في أمر الدنيا والتقصير في أمر الدين ، فقال:”ثم بعد ذلك رأيت بعض التغافل والتمادي في أمر هذه الدنيا ،وذُكِر لي أن الناس معهم كسل في الصلاة والمبادرة إليها ،واللهو في مطالب الدنيا” ثم يختم بأن هذا الانصراف عن الآخرة إلى الدنيا وإلى اللهو “ما هو بدليل خير” أي :ليس طريقاً إلى استدامة هذه النعمة .

لذلك تأتي خاتمة هذه الرسالة في تأكيده رحمه الله على أن بقاء النعم هو بالمحافظة على الأمور التي أكدتها هذه الرسالة ويفصلها في الخاتمة ، فيقول:”فالرجاء أن تقوموا على أنفسكم وتناصحوا إخوانكم المسلمين ، وترجعوا إلى ربكم ، وتوبوا إليه ،وتقوموا بالواجب بالاعتراف بنعمة التوحيد ، والاعتراف بما أعطاكم الله من الخير الجزيل من الأمن والصحة وغير ذلك ، وتجتهدوا في الاستغفار والتوبة” ثم يكمل رحمه الله في الحديث عن الإنفاق في سبيل الله والنصيحة للخاص والعام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كل بحسبه ،ليقول بعد ذلك:”لأن الوقت الفائت – أي سنوات الكرب-هو وقت الدعاء والرجاء والوقت الحاضر -وقت النعمة وانكشاف الضر – هو وقت الخوف والعمل ” وهذا معنى صحيح ، فإن الناس وإن كانوا دائماً في حاجة الدعاء والرجاء والخوف والعمل ، إلا أن وقت النعمة هو أحرى الأوقات بالخوف من الله ، لأن النعم غالباً تورث الإنسان غفلةً وركوناً إلى ما أعطاه الله ، فإذا زادت الغفلة انقلبت إلى طغيان موجب لزوال النعمة ، كما قال تعالى (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).

والسِّمَة اللافتة في شخصية الملك عبدالعزيز والتي تتجلى في هذا المقال : أنه مؤمن صادق الإيمان ، وأنه داعية إلى الدين لذات الدين وليس لمآرب سياسة أو دنيوية كما هي عادة  أكثر السياسيين والحكام في العالم ؛وذلك أنه قد لقي من غلاة المتدينين المنحرفين بالدين عن معناه الصحيح من العداء ما كاد يعطل مشروعه الديني الوحدوي حتى قضى على فتنتهم في معركة السبلة عام ١٣٤٧أي قبل كتابة رسالته هذه بثلاثة عشر عاماً ، ومع ذلك لم يَرَ أن التدين بعامة هو سبب لتلك المشكلة ، واستمر على دعوته شعبه للتدين ، واستنكر ما شاهده من بعض التقصير والركون إلى الدنيا ؛ وهذا الأدب والثقة بالمبدأ  هو ما ينبغي أن يتعلمه بعض الكتاب  الذين عمدوا إلى حرب الدين والمنهج السلفي بأقلامهم ومحاضراتهم بسبب ما وقع من انحراف بالدين عن المنهج الصحيح لدى الجماعات المتطرفة ؛ ولتكن تجربة ملك الرحمة عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل مدرسة لكل كاتب ومتدبر في التاريخ وصانع أفكار .

إننا نعيش في وطن كبير كان قبل الملك عبد العزيز أوطانا شتى ، ونعيش في رغد وتتابع نعم كانتا قبل الملك عبدالعزيز فقراً وشُحَّاً ، ونعيش أمنا ضافياً كان قبل الملك عبدالعزيز خوفاً وتناحراً ، وذلك من فضل الله عليه وعلى الناس ؛ فما أحرى  أن تكون وصاياه رحمه الله قلائد في آذاننا وأذهاننا ، تعيها بصائرنا وتعمل بها جوارحنا ، وليس عندي أجمل من أن تكون هذه الكلمة ومثيلاتها ضمن مقررات دراسة أبنائنا في جميع مراحل دراستهم .

التعليقات

ردان على “قراءة في رسالة الملك عبد العزيز لمن يراه من المسلمين عام ١٣٦٠هـ”

  1. يقول أحمد بن مهنا الصحفي:

    رحم الله الملك عبدالعزيز رحمة واسعة ووفق ولي أمرنا سلمان ابنه ووفق ولي العهد محمد بن سلمان حفيده كله .. والحمدلله حمدا كثيرا .. وجزاك أنت يادكتور محمد على هذه المقالة ومثيلاتها مما تنفعنا بها وتوثقه من ذلك التاريخ العاطر الذي يدفعنا لنزيد في شكر الله والدعاء لمؤسس هذا الوطن ولمن جاء من بعده وسار على طريقه في قيادة الوطن وحفظ الدين فيه والعمل على مصالح مواطنيه.

  2. يقول أحمدبن مهنا الصحفي:

    رحم الله الملك عبدالعزيز رحمة واسعة ووفق ولي أمرنا سلمان ابنه ووفق ولي العهد محمد بن سلمان حفيده للخير كله .. والحمدلله حمدا كثيرا .. وجزاك أنت يادكتور محمد على هذه المقالة ومثيلاتها مما تنفعنا بها وتوثقه من ذلك التاريخ العاطر الذي يدفعنا لنزيد في شكر الله والدعاء لمؤسس هذا الوطن ولمن جاء من بعده وسار على طريقه في قيادة الوطن وحفظ الدين فيه والعمل على مصالح مواطنيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.