آخر الأخبار
مدائن اسلامية ترمذ..عروس نهر جيحون .. مشاهدات يسردها : عبدالعزيز قاسم اعلامي وكاتب سعودي
هنا الجزء الثاني من رحلتي، إلى مدينة ترمذ ونشرت الحلقة في صحيفة مكة المكرمة اليوم الخميس، وشكر أخوي خاص للزميل الكبير د.عثمان الصيني على حفاوته بهذه الرحلات، وفيما يلي مجموعة كبيرة من الصور، آمل أن تروق لمن يحب التأريخ والرحلات..
وقتما عزمت على زيارة مدينة إمام الحديث محمد بن عيسى الترمذي، لم أدر أنها في أقصى الجنوب الغربي من أوزبكستان، وأنها تقع على الحدود من أفغانستان، وأن الأمر يستلزم أن أغيّر خطتي الأولية بالذهاب برّاً، ليتسنى لي رصد ما أمكن من مشاهدات في تلك البلاد، فكان مما لا بدّ منه بالذهاب بالطائرة، لأن ترمذ بعيدة جدا عن العاصمة طشقند.
كنت قد خصصت يومين كاملين لزيارة المدينة، ولكن المكتب السياحي الذي تعاملت معه، أخطأ في أخذي من الفندق، فقد وهم أن الرحلة في السابعة، بينما كانت في الخامسة عصراً، ففاتني الرحلة، ولكني أدركت في ضحى اليوم التالي الرحلة المتجهة لهذه المدينة، فثمة رحلتان تأتيانها من العاصمة طشقند، وأنا أوصي بالذهاب جوّاً، لأن الطرق البرية متعبة جدا للسائح.
صورة التقطتها من الطائرة لمدينة ترمذ، ولمحت عن بُعد جبالا شاهقة أخبرني أحد الجالسين بجواري من أهل ترمذ بأنها جبال بامير
المدينة صغيرة، وأنا أطالعها من علو، عبر الطائرة الصغيرة التي ركبتها؛ ألفيت أنها تقوم على الضفة الشرقية من نهر جيحون الجميل، والمزارع تمتد على مدّ النظر، خصوصا القطن، لذلك لم أتعجب من حضورها الكبير في كتب الرحالة العرب القدامى، وعلمت أنها كانت حاضرة بلاد ما وراء النهر، فالوكيبيديا تعرّف المدينة بقولها: ” ترمذ مدينة مشهورة، من أمهات المدن تقع على مجرى نهر جيحون، على الجهة الشرقية لجمهورية أوزبكستان، يحيط بها سور، وأسواقها مفروشة بالآجر. من مشاهيرها : الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي صاحب الجامع الصحيح، أحد الأئمة في علم الحديث، وهو تلميذ الإمام البخاري، فتحها المسلمون في خلافة عبد الملك بن مروان، حكمها السلاجقة والمغول والأزابكة”.
في أعلى سور المدينة القديم ، والسور يبعد كثيرا عن المدينة الحالية، ربما بفعل الزمن والفيضانات والغزو، بيد أنه مرمم وبحال جيدة
الإغريق وترمذ
كانت درجة الحرارة عالية، في الوقت الذي زرت فيه المدينة، نهاية شعر شعبان من هذا العام، والناس لا يتواجدون في الشوارع، وكانت شبه خالية بسبب الحرارة ، مع أننا إن وقفنا في الظل انخفضت لثمان إلى عشر درجات بسبب البساتين والأشجار هناك، مع نسيم لطيف يدغدغ وجناتك في تلك الهاجرة، وعرفت سبب تسمية المدينة بهذه الاسم، إذ أطلق الإغريق هذا الاسم على المدينة، ويعنون به :المكان الحار، بحسب موقع آسيا الوسطى الذي أعطى نبذة عن المدينة بقوله:
ترمذ، هي مدينة مشهورة في جنوب أوزبكستان، على الضفة الشرقية لنهر جيحون (Amu Darya river) الذي يفصلها عن أفغانستان. اسم المدينة أطلقه الإغريق الذين أتوا مع الإسكندر الأكبر، ويعني “المكان الحار” من Thermos، دخلها المسلمون عام 56هـ- 676م عندما فتحها سعيد بن عثمان بن عفان صلحًا، ثم أعاد فتحها موسى بن عبد الله بن خازم عام 69هـ- 689م، وانتفض أهلها ففتحها قتيبة بن مسلم حوالي عام 93هـ- 711م. حكمها السلاجقة والمغول والأوزبك.
وينسب إليها محمد بن عيسى الترمذي، تلميذ البخاري صاحب الصحيح، وتوفي فيها عام 279هـ- 892م. وكتاب السنن- المعروف بسنن الترمذي- أشهر مصنفاته، وله مصنف الجامع، وكتاب العلل وغير ذلك.
كما ينتسب إليها شيخ الشافعية في العراق محمد بن أحمد بن نصر الترمذي الشافعي، أبو جعفر، والمعروف باسم أبي جعفر الترمذي، الذي ولد عام 201هـ- 816م، وتوفي عام 295هـ- 907م، وهو صاحب كتاب “مجموع شرح المهذب”.
ومن شخصيات ترمذ: الصوفي محمد بن علي بن الحسن بن بشر الترمذي، والمعروف باسم الحكيم الترمذي، المتوفى عام 320هـ- 932م. من مصنفاته: “ختم الولاية”، و”علل الشريعة”، و”حقائق التفسير”
مدخل البوابة لمدينة ترمذ القديمة ، تشعر بهيبة أمام تاريخ ضارب في القدم
أصعد هنا درجات البوابة الكبيرة، التي تطل منها على المدينة
تتبدى لك أطلال قديمة ، والحقيقة أن المدينة الان بعيدة نوعا ما عن هذه المدينة القديمة التي تحولت لشواهد يزورها السياح فقط
تَرِمُذ أم تِرمِذ ؟
وقتما شرعت في الكتابة عن المدينة، رأيت المؤرخين مختلفين في التسمية، وأخذت منهم صفحات عديدة، فهل تنطق بفتح التاء أم كسرها، وربما يلخص ذلك ما نقله الرحالة الشهير ياقوت الحموي وقتما كتب عنها من وحي زيارته لها، فقد كتب: “قال أبو سعد: الناس مختلفون في كيفيه هذه النسبة، بعضهم يقول بفتح التاء وبعضهم يقول بضمها وبعضهم يقول بكسرها، والمتداول على لسان أهل تلك المدينة بفتح التاء وكسر الميم، والذي كنا نعرفه فيه قديما بكسر التاء والميم جميعا، والذي يقوله المتأنقون وأهل المعرفة بضم التاء والميم، وكلّ واحد يقول معنى لما يدعيه. وترمذ: مدينة مشهورة من أمهات المدن، راكبة على نهر جيحون من جانبه الشرقي، متصلة العمل بالصغانيان، ولها قهندز وربض، يحيط بها سور، وأسواقها مفروشه بالآجر، ولهم شرب يجري من الصغانيان لأن جيحون يستقلّ عن شرب قراهم.
وقال نهّار بن توسعه يذمّ قتيبه بن مسلم الباهلي ويرثي يزيد بن المهلّب:
كانت خراسان أرضا، إذ يزيد بها، وكلّ باب من الخيرات مفتوح
فاستبدلت قتبا جعدا أنامله، كأنما وجهه بالخلّ منضوح
هبّت شمالا خريقا أسقطت ورقا، واصفرّ بالقاع بعد الخضره الشيح
فارحل، هديت، ولا تجعل غنيمتنا ثلجا تصفّقه بالترمذ الريح
إن الشتاء عدوّ لا نقابلهفارحل، هديت، وثوب الدّفء مطروح
وتروى الثلاثة أبيات الأخيرة لمالك بن الرّيب في سعيد بن عثمان بن عفان. والمشهور من أهل هذه البلدة أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي الضرير، صاحب الصحيح أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث”.
استغربت أنهم أخذوني لمكان قصي في ضاحية المدينة، وقال مرافقي بأن هذا أقدم معبذ بوذي ، وأن بوذا كان يتعبد هنا، واكتشفت بعثة غربية هذه الآثار، وسجلت في اليونسكو التي أتت وررممت المعبد .
ما هي بلاد ما وراء النهر؟
سألني بعض المحبين عقب قراءتهم الحلقة السابقة التي نشرت في هذه الصحيفة الغراء، عن (بلاد ما وراء النهر) التي استخدمتها في كتاباتي وما المقصود بها، وما هي تلك البلاد التي كان المؤرخون العرب يطلقون هذا الوصف عليها؟، والحقيقة أنني قرأت ابن كثير وغيره يطلق هذا الاسم، وعدت للمراجع التاريخية، ولقيت نصا للمؤرخ عبدالرحمن الفريح، حيث ساق ما قاله ياقوت الحموي في معجم البلدان عن بلاد ما وراء النهر، حيث قال: “يراد به ما وراء نهر جيحون بخراسان، فما كان في شرقيه يقال له بلاد الهياطلة، وفي الإسلام سموه ما وراء النهر، وما كان في غربيّة فهو خراسان وولاية خوارزم، وخوارزم ليست من خراسان إنما هي إقليم برأسه”.
كانت بلاد ما وراء النهر تُعرف في الماضي ببلاد تركستان الكبرى، وعندما فتحها المسلمون العرب في القرن الأوَّل الهجري أطلقوا عليها: “بلاد ما وراء النهر”، ومعناها البلاد الواقعة خلف نهر جيحون (أموردريا) وسيحون (سيردريا)، وهي منطقة شاسعة عظيمة الاتِّساع، تمتدُّ من تركيا غربًا حتى حدود الصين شرقًا، وقد باتت مقسَّمة إلى تركستان الشرقيَّة وتركستان الغربيَّة، وتخضع منطقة تركستان الشرقيَّة (سينكيانغ) الآن للاحتلال الصيني البغيض، والذي يُمَارِسُ مع سكانها كل أنواع التعذيب والقتل والتنكيل، أما منطقة تركستان الغربيَّة فهي موضوع دراستنا، وتضمُّ دُولاً خمسًا هي: طاجيكستان، وتركمانستان، وقيرغيزستان، وأوزبكستان، وكازاخستان، بالإضافة إلى أذربيجان التي يشملها إقليم القوقاز مع جمهوريات وأقاليم أخرى ذات استقلال ذاتي في جمهوريتي أرمينيا وجورجيا”.
بعض الآثار والمدارس الاسلامية القديمة هنا في ترمذ اليوم، ولكنها للسياحة فقط
مغارة كان يتعبد فيها والي ترمذ القديم وبعض الصوفية
ترمذ بعيون ابن بطوطة
قلت بأن ترمذ كانت حاضرة بلاد ما وراء النهر، بسبب موقعها الجغرافي الفريد، وزارها شيخ الرحالة العرب ابن بطوطة، والذي قال فيها: “ثم وصلنا إلى مدينة ترمذ، والتي ينسب إليها الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، مؤلف الجامع الكبير في السنن. وهي مدينة كبيرة حسنة العمارة والأسواق تخترقها الأنهار وبها البساتين الكبيرة والعنب والسفرجل بها متناهي الطيب، واللحوم بها كثيرة وكذلك الألبان. وأهلها يغسلون رؤوسهم في الحمام باللبن عوضاً عن الطفل، ويكون عند كل صاحب حمام أوعية كبار مملوءة لبناً، فإذا دخل الرجل الحمام أخذ منها في إناء صغير فغسل رأسه، وهو يرطب الشعر ويصقله. وأهل الهند يجعلون في رؤوسهم زيت السمسم ويسمونه الشيرج، ويغسلون الشعر بعده بالطفل، فينعم الجسم ويصقل الشعر ويطيله، وبذلك طالت لحا أهل الهند ومن سكن معهم.
وكانت مدينة ترمذ القديمة مبنية على شاطيء جيحون، فلما خربها تنكيز بنيت هذه الحديثة على ميلين من النهر، وكان نزولنا بها بزاوية الشيخ الصالح عزيزان، من كبار المشايخ وكرمائهم، كثير المال والرباع والبساتين، ينفق على الوارد والصادر من ماله، واجتمعت قبل وصولي إلى هذه المدينة بصاحبها علاء الملك خداوند زاده، وكتب لي إليها بالضيافة. فكانت تحمل إلينا أيام مقامنا بها في كل يوم، ولقيت أيضاً قاضيها قوام الدين وهو متوجه لرؤية السلطان طرمشيرين، وطالب للإذن له في السفر إلى بلاد الهند، وسيأتي ذكر لقائي له بعد ذلك ولأخويه ضياء الدين وبرهان الدين بملتان، وسافرنا جميعا إلى الهند. وذكر أخويه الآخرين عماد الدين وسيف الدين ولقائي لهما بحضرة ملك الهند، وذكر ولديه وقدومهما على ملك الهند بعد قتل أبيهما وتزويجهما بنتي الوزير خواجة جهان، وما جرى في ذلك كله أن شاء الله تعالى.
ثم جزنا نهر جيحون إلى بلاد خراسان وسرنا بعد انصرافنا من ترمذ وإجازة الوادي يوماً ونصف يوم في صحراء ورمال لا عمارة بها إلى مدينة بلخ”.
صورة لمدينة ترمذ القديمة وسورها وبوابتها التي كنا فيها قبل قليل
صورة من بعيد لنهر جيحون أحد أنهار الجنة، وهو في ترمذ صاف ورائع ودفقه قوي، بينما يصل متربا ومتعبا لخوارزم على بعد مئات الكيلات
نهر جيحون
لم أستطع تصوير نهر جيحون من قريب، حيث كانت الاجراءات الأمنية على أشدها، فمن المطار أخذوا جوازاتنا، ودققوا فيها، وأعطونا إياها بعد فترة انتظار، وقال مرافقي هناك وكان في العقد الثالث من عمره، بأنه أدرك قبل ثلاثين عاما المدينة، إبان الغزو السوفيتي لأفغانستان، وكانت ترمذ هي مدخل هذه القوات لأفغانستان، وتحولت لمنطقة عسكرية محظورة، ليس فيها الا العسكر ببساطيرهم ودباباتهم، وعندما رحل السوفييت مدحورين، وتشظت بلادهم، واستقلت تلك الجمهوريات الاسلامية، أتت إلى ترمذ -من وحي حرب أفغانستان- القوات الأمريكية،
وهي الان مركز عسكري أيضا للأمريكان والقوات المتحالفة معها.
لذلك لم أستطع الاقتراب من نهر جيحون، لأن على الضفة الأخرى مباشرة أفغانستان، حيث ألمح الثكنات العسكرية، وشتان ما بين ضفتي النهر، الذي رأيت ماءه من بعيد صافيا وأزرقا، ينساب بقوة من جبال بامير وجبال طاجكستان.
المؤرخ عبدالرحمن الفريح يقول: “وينبع نهر جيحون المعروف حاليًّا باسم أموداريا من جبال البامير التي تُسمَّى سقف العالم في شمال شرق أفغانستان بالقرب من حدودها مع الصين وجمهوريات التركستان ، ويتلقَّى تغذيته من ذوبان الثلوج في جبال الهندوكوش، ومن روافده التي تلتقي به في منطقة الخطل كنهر جرياب ووخش، وأنهار منطقتي نخشاب والبتم.
ويسير نهر جيحون باتِّجاه الغرب إلى أن يصل إلى مدينة ترمذ فاصلاً بين خراسان وبين بلاد ما وراء النهر ويعرف الأهالي هناك نهر جيحون باسم ماله، ومنها يتَّجه شمالاً فاصِلاً أيضًا بين خراسان وبلاد ما وراء النهر، بحيث تصبح ترمذ في جانبه الشرقي في أرض ما وراء النهر، ويُقابِلها بَلْخ في الجانب الخراساني.
ويلاحظ أنَّ النهر يستبحر ماؤه في أرض ترمذ وبَلْخ بعد أن تنجلب إليه مياه عظيمة، أمَّا بعد ترمذ فإنَّ مجراه يَضِيق ثمَّ ينبسِط عند زم الواقعة على جانبه الغربي في مُقابَلة رمال غزيرة في الشرق تؤدِّي إلى نخشب، ومن ثَمَّ إلى سمرقند في بلاد الشاش.
ويستمرُّ النهر في مَسِيره إلى آمُل الخراسانية المقابلة لـ”فَرَبْر”التي يؤدِّي طريقها إلى بُخارَى، وينتهي النهر إلى خوارزم في البحيرة المعروفة بالجرجانية التي هي بحر (الآرال) الذي يصبُّ فيه أيضًا نهر فرغانة، والشاش من بلاد ما وراء النهر”.
علما أنني رأيت النهر في خوارزم متربا متسخا، يسيل بهدوء، وقد ضعف دفقه، وسألت في خوارزم عن بحر الآرال فأخبروني أنه جف بسبب قلة تغذية الروافد المائية له، والسحب الكبير لمائه.
طبخة “اللغمن” الشهيرة يعرفه محبو الأكل البخاري ، طعمه خيال هناك ، غير الذي تأكله هنا.
المطبخ الترمذي
كنت حريصا في زيارتي لتلك المدن في أوزبكستان، غشيان المطاعم الشعبية هناك، لأرى الاختلاف بينهما من جهة، وبين أصناف الطعام التي نأكلها في المائدة البخارية في الحجاز، عبر الجالية الكبيرة التي هاجرت في عهد لينين وستالين إبان العهد الشيوعي البائد، وهربت بدينها وطمعت في جيرة حرم الله في مكة المكرمة.
لذلك اعترضت على المرافق الذي ظن أنني كبقية السياح أنشد المطاعم الحديثة، وللأسف أن وجبة الرز الشهيرة “الفلو” تنتهي مبكرا، فلها موعد مبكر يتناولونه فيه، وأنا في فترة العصر، بيد أننا وجدنا مطعما شعبيا بالكاد، وطلبت الأكلة البخارية الشهيرة “اللغمن”، فألفيت لها طعما مختلفا، غير التي نأكلها هنا، وربما كانت الأجواء التي أنا فيها مساعدة في احساسي بهذا الشعور، إلا أنني آكل تلك الأطباق في سني عمري المتعددة، وميزت الطعم الرائع للأكلات الشعبية هناك في ترمذ.
وحرصت على زيارة السوق المركزي، ووجدت ما جلبه المهاجرون معهم للسعودية، وما كانوا يصنعونه لوقت قريب، من المكسرات التي يطلونها بالسكر المذاب، وبعض الفواكه المجففة، والحلويات التي تفنن المهاجرون في تقديمها للمجتمع الحجازي.
المكسرات المطلية بالسكر المذاب، يتفنن أولئك القوم في موضوع المكسرات ويبدعون فيها ..
المشمش المجفف، ويعتبرونه دواء للقلب هناك، وعليه اقبال وطعمه لذيذ جلبت منه للسعودية، ولمن يزورني في العيد سيتذوقه ان شاء الله
الخبر الترمذي ، هذا شكله، وطعمه رائع، ولكن الخبر في بخارى لا يعلى عليه على الاطلاق
عرب في ترمذ
ما جعلني حريصا على زيارة هذه المدينة، هو إمام الحديث أبو عيسى محمد الترمذي، ومن عجب أن ثمة (ترمذييَن) شهيرين لدى أهل المدينة، فهناك الحاكم محمد الترمذي، وهو عندهم أشهر وأجلّ من إمام الحديث، وأقاموا له ضريحا كبيرا بحديقة واسعة، ومدارس مشيدة في المنطقة التي دفن فيها، بينما الامام أبو عيسى يرحمه الله في منطقة بعيدة خارج المدينة، في قريته (بوغ) التي ولد فيها، وكنت أسأل عن السبب في ذلك، ووجدت الجواب بأن امام الحديث يعود أصله للعرب، ومن قبيلة سُليم تحديدا، وتلك المنطقة التي زرتها يقول عنها مرافقي الترمذي أنها منطقة يسكنها العرب فقط، وأنهم لا يتزوجون إلا من داخل محيطهم الاجتماعي، ولا يزوّجون بناتهم لغير عرقهم، وعندهم التعدد رغم منعه بقانون الدولة، ويقيمون القصاص والجلد، وبعض الموروثات التي تنبئ أنهم عرب أقحاح كإكرام الضيف، والعناية بالجمال والخيول.
أصررت على رؤيتهم وزيارتهم رغم وقتي الضيق، وفعلا وجدت أحدهم، ملامحه عربية تماما، ورحب بي وأصرّ على ضيافتي، وتضايق كثيرا عندما اعتذرت، وسألته عن نسبه، فقال: “انقطعت صلتنا بالجزيرة العربية من أوقات طويلة، ولكن نحن أحفاد العرب الأوائل الذين جاءوا لهذه البلاد، واستوطنوا هذه البلاد بعدما استطابوها، ولديّ مجموعة كبيرة من المخطوطات القديمة باللغة العربية، ورثتها من أجدادي، ولا نعرف ماذا فيها، ولو أكرمتني بالزيارة لأهديتك إياها”.
طبعا طمعت، ولكن وقتي كان ضيقا جدا، فاعتذرت منه وشكرته ورحلت وأنا ساخط على فرصة ذهبية طارت مني.
(صورت بعض أولئك العرب ولا أدري أين ذهبت صورهم مع كثرة الصور في جوالي)
استروحت في الحديقة العامة لمدينة ترمذ، وكانت المدينة في الظهيرة شبه خاوية، ولكن الناس بدأوا يخرجون مع العصر
هنا مع مرافقي الذي أكرمني بجولة ماتعة، وأعيد النصيحة بعدم الذهاب في الصيف لأن تلك البلاد حارة ولا تستمتع عكس الربيع التي تتحول فيها إلى جنان خضراء
هنا مدخل قبر الامام الترمذي وهي بعيدة في قرية تبعد حوالي ال50 كيلا أو شيئا من هذا، ومكتوب في أعلاه باللغة العربية: أبو عيسي محمد، إمام ترمذ
عند قبر الامام الترمذي
أكرر لمرات، أن تلك القبور والشواهد التي أقيمت للعلماء في تلك البلاد، هي من وحي تكريمهم وفهم أولئك القوم للإسلام، وإلا فهي مخالفة لعقيدة السلف الصالح، ووقتما جئت قرية الامام الترمذي يرحمه الله والتي اسمها (بوغ) كان الطريق خاليا، ولا يزوره كثيرون عكس الترمذي الحاكم، ربما لقرب المسافة، وأنا حمدت الله تعالى أن جنّب إمام السلف كثيرا من المنكرات البدعية، وأسوق هنا ما قاله علماء الحديث والتاريخ عن سيرة الرجل، ومدينة ترمذ لم يشهرها في العالم الاسلامي إلا هذا العالم الكبير، فحقيق بنا أن نعرّف به بنبذة عن حياته:
الوكيبديا تعرّف الرجل بقولها: ” التّرْمذِي، أبوعيسى (209 هـ – 279 هـ) = (824م – 892م).
هو محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، السلمي الترمذي، أبو عيسى. مصنّف كتاب الجامع. حافظ، علم، إمام، بارع.
ولد في ترمذ وهي مدينة جنوب أوزبكستان وكانت سابقاً موصولة مع مدينة هرات الأفغانية . واختُلف فيه، فقيل: ولد أعمى، والصحيح أنه أضر في كِبره بعد رحلته وكتابته العلم. طاف البلاد وسمع خلقاً كثيراً من الخراسانيين، والعراقيين، والحجازيين، وغيرهم. كان يُضرب به المثل في الحفظ. هذا مع ورعه وزهده. صنّف الكثير، تصنيف رجل عالم متقن. ومن تصانيفه: كتابه الشهير الجامع المعروف بسنن الترمذي؛ العلل؛ الشمائل المحمدية وغيرها.
هنا الضريح الذي أقامه القوم له، في داخله قبر الامام الترمذي يرحمه الله
أقوال العلماء في الترمذي
رغم باعه الكبير في الحديث، إلا أن الإمام الترمذي لم ينل حظا من الشهرة، كالامامين البخاري ومسلم، رغم أقوال مجايليه فيه، وهنا ما قاله بعض الأئمة عنه:
قال ابن الأثير في تاريخه: كان الترمذي إماما حافظا له تصانيف حسنة منها الجامع الكبير وهو أفضل الكتب.
قال ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب: كان مبرزا على الأقران، آية في الحفظ والإتقان.
قال المزي في التهذيب بأنه: الحافظ صاحب الجامع وغيره من المصنفات، أحد الأئمة الحفاظ المبرزين ومن نفع الله به المسلمين.
وصفه السمعاني بأنه: إمام عصره بلا مدافعة.
قال الذهبي في الميزان: الحافظ العالم صاحب الجامع ثقة مجمع عليه ولا التفات إلى قول أبي محمد بن حزم في الفرائض من كتاب الإيصال أنه مجهول فإنه ما عرف ولا درى بوجود الجامع ولا العلل له.
ذكره ابن حبان في الثقات وقال فيه: كان محمد ممن جمع وصنف وحفظ والإمام الترمذي صاحب لجامع من الأئمة الستة الذين حرسوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبحت كتبهم في عالم السنة هي الأصول المعتمدة في الحديث ومن الذين نضر الله وجوههم لأنه سمع حديث رسول الله فأداه كما سمعه.
هذا قبر الامام الترمذي، ومكتوب عليه: أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة البغوي الترمذي وأحاديث في الحواف
قوة الحفظ
وقال أبو سعد الإدريسي : كان أبو عيسى يضرب به المثل في الحفظ . وقال الحاكم : سمعت عمر بن علك يقول : مات البخاري , فلم يخلف بخراسان مثل أبي عيسى , في العلم والحفظ , والورع والزهد . بكى حتى عمي , وبقي ضريرا سنين . ونقل أبو سعد الإدريسي بإسناد له , أن أبا عيسى قال : كنت في طريق مكة , فكتبت جزئين من حديث شيخ , فوجدته فسألته , وأنا أظن أن الجزئين معي , فسألته , فأجابني , فإذا معي جزآن بياض , فبقي يقرأ علي من لفظه , فنظر , فرأى في يدي ورقا بياضا , فقال : أما تستحي مني ؟ فأعلمته بأمري , وقلت : أحفظه كله . قال : اقرأ . فقرأته عليه , فلم يصدقني , وقال : استظهرت قبل أن تجيء ؟ فقلت : حدثني بغيره . قال : فحدثني بأربعين حديثا , ثم قال : هات . فأعدتها عليه , ما أخطأت في حرف .
وعن أبي علي منصور بن عبد الله الخالدي , قال : قال أبو عيسى صنفت هذا الكتاب , وعرضته على علماء الحجاز , والعراق وخراسان , فرضوا به , ومن كان هذا الكتاب -يعني “الجامع”- في بيته , فكأنما في بيته نبي يتكلم . قلت : في “الجامع” علم نافع , وفوائد غزيرة , ورؤوس المسائل , وهو أحد أصول الإسلام , لولا ما كدره بأحاديث واهية , بعضها موضوع , وكثير منها في الفضائل .
وفي “المنثور” لابن طاهر : سمعت أبا إسماعيل شيخ الإسلام يقول : “جامع” الترمذي أنفع من كتاب البخاري ومسلم , لأنهما لا يقف على الفائدة منهما إلا المتبحر العالم , و “الجامع” يصل إلى فائدته كل أحد .
هناك في زيارة لبعض معالم المدينة ، بها حدائق رائعة وجميلة
أستروح، ورغم القيظ الشديد تحت الشمس ، إلا أن الظل هناك مريح ، وثمة نسمات باردة تخفف عليك
طبعا عصير “الكمبوت” وهو ما يشبه السوبيا لدينا، وما زلت أقول بأنه نبيذ أبو حنيفة الذي عناه، مكون من الفواكه ومع برودته وأنت تشربه تشعر بنشوة عارمة تتملكك
الجزء الثالث عن مدينة بخارى بإذن الله
التعليقات