العزف الغلط على أوتار الثورة الفرنسية

تكبير الخط تصغير الخط

في مجموعة عبد العزيز قاسم البريدية نشر الأستاذ أبو يعرب المرزوقي كلمة ثناء على إحدى مقالات أخينا أبي صلاح الأستاذ جمال خاشقجي ، يُهمني هنا من كلمته تلك خاتمتُها فقط وهي قوله مخاطبا حكام الخليج : ويكفي أن يتذكروا ما حصل في أوروبا بعد الثورة الفرنسية فكل من تحالف ضدها جرفه التاريخ.

هذه الكلمة منذ أكثر من ثلاث سنوات وأنا أقرأ وأسمع أمثالها لكُتَّاب من المشرق العربي ، ولم أكن أحفل بها كثيراً لعلمي أن معرفة المشارقة بالثورة الفرنسية محدودة ، وغالباً ما يعتمدون على ذاكرتهم حين التطرق للحديث عنها.

لكنني تعجبت من أن تأتي هذه الكلمة على لسان مثقف مغاربي بحجم أبي يعرب إذ ليس لدي شك في معرفته الدقيقة بتفاصيل الثورة الفرنسية وما سبقها وما جاء بعدها .

ومحل عجبي أننا حين نستقرئ الثورة الفرنسية ونريد أن نجعل منها ومن نتائجها مثالاً تستفيد منه الثورات العربية الجديدة ، وتستفيد منه الدول العربية في طرائق التعامل مع هذه الثورات ، فإن الدروس المستفادة ستكون على العكس تماماً مما استنبطه الأستاذ أبو يعرب وكل من سبقه إلى هذا السبيل .

بل إننا حين نُصِر على أن تكون الثورة الفرنسية مثالاً ونعتبرها أنموذجاً للسُنَن الكونية التي أمرنا الله تعالى بالاعتبار بها ، حين نُصِر على ذلك سنجد أننا مضطرين لتأييد انقلاب المشير عبد الفتاح السيسي أو ثورة ٣٠يونيو كما يسميها كثيرون ، ومضطرون أيضاً لتأييد اللواء حفتر وما يصنعه في ليبيا ، بل ربما وجد الأستاذ أبو يعرب نفسه في حاجة للمطالبة بمِثل السيسي أو حفتر في بلده تونس حيث انطلقت شرارة ما يُسمُّونه : الربيع العربي .

يُوَضِّحُ ذلك أن الثورة الفرنسية انتهت بقتل الملك لويس السادس عشر مطلع عام ١٧٩٣ وقامت بعد ذلك دكتاتورية خطيرة ودموية على إثر تكوين لجنة الأمن العام والتي أُعطيت من قِبَل المؤتمر الوطني صلاحيات استبدادية عظيمة ، تم باسمها إعدام آلاف السياسيين والإقطاعيين والكُتَّاب ورجال الدين ، كما تم باسمها قمع العديد من الاحتجاجات الشعبية في سائر أنحاء فرنسا.

وبعدها بعام تم انقلاب على لجنة الأمن العام باسمه إتُّهِم كل المتظاهرين ضده بأنهم ملكيون وقُمِعُوا، وسُيِّرت الكتائب لقمع كل الاحتجاجات في سائر أنحاء فرنسا .

بل لما فاز من يُسَمُّونهم بالملكيين في المجلس الوطني تم إقصاؤهم ، ثم مواجهة احتجاجاتهم بالمدفعية الثقيلة .

والأحداث طويلة وكثيرة خُلاصتُها : أن الثورة الفرنسية لم تُنتج ديمقراطية ولا نهضة ولا رضى ولا استقراراً ، بدليل أن هؤلاء الذين سُمُّوا بالملكيين وسُحِقُوا بالمدافع الثقيلة عادوا سنة١٧٩٧ ليفوزوا بالمجلس الوطني الذي كان يحكم فرنسا ، لكن من يُسمَّون بالجمهوريين نظموا انقلاباً على هذا المجلس المنتخب ذي الأغلبية الملكية .

وقد حاول هؤلاء المستبدون الذين يسمُون أنفسهم جمهوريين تسكينَ الشعب باستغلال قوة الدولة العسكرية التي صنعها النظام الملكي السابق وذلك بإشغاله بحروب توسعية قاد معظمها نابليون بونابارت في داخل أوربا وخارجها.

وأبرز ما نتج عن هذه الفوضى هو استبداد نابليون بونابرت بالحكم وتعيينه نفسه قنصلاً أولاً في لجنة القناصل التي تحكم فرنسا ، ثم تعيينه نفسه إمبراطوراً على فرنسا .

كما استطاع إخضاع معظم أوربا لحكمه وتُوِّج ملكاً على إيطاليا ، وتوج أخاه ملكاً على إسبانيا وإخاه الآخر ملكاً على هولندا ، وعين أقاربه وأصدقاءه في مسؤوليات مختلفة عن سائر مناطق أوربا الخاضعة له .

وبالرغم من حروبه الكثيرة إلا أن عهده وضع حداً للفوضى التي أحدثتها الثورة الأمر الذي جعل له في قلوب الفرنسيين محبة عظيمة ، وصلت لدرجة أنه حين هرب من منفاه في جزيرة ألبا وقدِم عائداً إلى فرنسا ، أرسل إليه لويس الثامن عشر ، وهو الملك الذي تولى الحكم بعده ، أرسل له جيشاً ليقوم باعتقاله ، وحين التقى بهذا الجيش نزل إليهم ولما وصل إلى مرمى بنادقهم قال: أنظروا إلي أمامكم أنا الإمبراطور نابليون ، هل تريدون قتل إمبراطوركم ؟

فصاحوا يحيا الإمبراطور ، وساروا وراءه حتى دخل بهم باريس ليهرب منه لويس الثامن عشر .

وقد انتهى حكم نابليون بونابرت سنة ١٨١٥ أما الحكم الملكي والإمبراطوري فقد استمر بعد بونابرت في فرنسا حتى سنة ١٨٧٠ عند استسلام نابليون الثالث في الحرب البروسية.

ومن هذا السرد المُوجز يمكن أن نستخلص عدداً من النتائج ، كلُّها على نقيض ما يُروج له المتحمسون للثورات والذين يبحثون عن أنموذج تاريخي ولو مصطنع يُساعدهم على الترويج لفكرة الثورات الشعبية وتخويف الناس من معاداتها .

النتيجة الأولى : أن الثورة الفرنسية لم ينتج عنها حكم ديمقراطي بل كانت نتيجتها المباشرة حُكم دموي سماه المؤرخون الأوربيون عصر الإرهاب أما نتيجتها غير المباشرة فهي حكم إمبراطوري استمر قرابة الثمانين عاماً ، وبمعنى آخر : كانت الثورة الفرنسية إيذاناً بانتقال الحكم الوراثي من عائلة إلى عائلة أخرى وحسب .

النتيجة الثانية : أن النهضة الفرنسية العلمية و العسكرية والحقوقية والاستعمارية والفلسفية والتنظيمية لم تنشأ في فرنسا في ظل حكم ديمقراطي كما يُروِّج له دعاة الثورات ، بل بدأت تلك النهضة في عهد ملوك البوربون الذين قامت عليهم الثورة الفرنسية ثم في عهد نابليون الأول وأسرته والذي استمر قرابة الثمانين عاما ،

ال

تيجة الثالثة: الجمهورية الثالثة والتي بدأت بعد استسلام نابليون الثالث في الحرب مع بروسيا لم تنشأ نتيجة ثورة شعبية ، بل نشأت نتيجة هزيمة عسكرية شنيعة بعد التحالف البروسي الألماني على فرنسا ، ومن ثَمَّ احتلال معظم أجزاء فرنسا ، وقيام الدولتين المحتلتين بتشجيع الفرنسيين على انتخاب رئيس لهم ، الخلاصة أن الجمهورية الثالثة نشأت نتيجة احتلال وليس نتيجة ثورة .

النتيجة الرابعة : الذين تحالفوا ضد الثورة الفرنسية لم يجرفهم التاريخ ، بل الثورة الفرنسية هي من جرفها التاريخ ، وأعظم من تحالف ضد الثورة الفرنسية هم الفرنسيون أنفسهم ومن الشواهد على ذلك : أن نابليون الثالث انتخبه أكثر من خمسة ملايين ناخب من بين ما يزيد قليلاً على السبعة ملايين ناخب وذلك بعد الإطاحة بالملك لويس فيليب عام ١٨٤٨.

تتمة القول : ما أجمل أن تستفيد أفكارُنا من التاريخ ، لكن الذي ليس جميلاً هو أن نعبث بالتاريخ ليُطابق أفكارنا.

د محمد بن إبراهيم السعيدي

التعليقات

ردان على “العزف الغلط على أوتار الثورة الفرنسية”

  1. يقول أم سهل:

    أحسن الله إليكم
    مقال جميل ومفيد
    ماهي مراجعكم في أحداث الثورة الفرنسية المذكورة في المقال؟
    جزاكم الله خير

  2. يقول د عبدالله الزهراني:

    ما أجمل أن تستفيد أفكارُنا من التاريخ ، لكن الذي ليس جميلاً هو أن نعبث بالتاريخ ليُطابق أفكارنا….عبارة موجزة ومعبرة تختصر الكثير …وترشد الى المسلك الصحيح والموقف الاسلم ..مع ما حدث ولا يزال يحدث في عالمنا الاسلامي ..مع تقصير واضح في تصور للامر على حقيقته مما نتج عنه ارتباك وتخبط في مواقف كثير من المنظرين اليوم… فاحسن الله اليكم د محمد وسدد قلمكم الرصين وزادكم سعة افق واطلاع على بصيرة وهدى من انور الشريعة وقواعدها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.