آخر الأخبار
مدينة نيوم،تجاوز العقبات وتضافر الثوابت
مشروع مدينة نيوم التي أعلن عنها سمو ولي العهد أضحت حديث العالم بحيث لا يمكن لمهتم وكاتب أن يجعلها تمر دون أن يُكَوِّن رأياً عنها ؛ خاصة بعد أن ازداد الحديث حول أثرها الاجتماعي والأخلاقي والديني ، لاسيما بعد الحديث القوي جداً لسمو ولي العهد عمَّا يُعرف بالصحوة ومخرجاتها البشرية والثقافية .
وقد بحثتُ لأجد دراسة علمية محايدة عن هذا المشروع كي أكَوِّن رأياً أكثر تفصيلاً حوله ، وللأسف فبالرغم من كثرة ما كُتِب إلا أن ما وجدته لا يخرج عن ثلاثة أنماط من الكتابة ؛ فإما محب حالم يقدم الايجابيات تلو الايجابيات دون أن يتحدث عن أي عقبة أو إشكال يمكن أن يواجه المشروع ؛ وإما كتابات حاقدة حاسدة تُقَدِّم صورة مظلمة ظالمة لا علاقة لها بأي جانب من جوانب العلم أو العدل ؛ وإما تقارير إخبارية وصفية تنقل الخبر كما حصلت عليه من وكالات الأنباء وهذا هو الأكثر .
كغير متخصص في الاقتصاد والصناعة وما إليهما رأيت أن أتواصل مع بعض المختصين وأسألهم عن المشروع وعمَّا لدي من استشكالات لم أجدها في كل ما قرأت وشاهدت ؛ وقد قدموا لي مشكورين كثيراً من المعلومات المفيدة والتي فهمتها جيداً ، ومعلومات أخرى لم أفهمها بحكم توغلها في عالم الاختصاص وأظنها مفيدة لو سمعها غيري ، لكنني سأقتصر هنا على نقل طرف من المعلومات التي أكرمني الله يفهمها، وأعتقد أن كثيراً من القراء سيفيدون منها .
المشروع كفكرة نظرية من الناحية الاقتصادية والتنموية ممتاز ومبتكر وفريد من نوعه عالمياً ؛ لكنه يواجه إشكاليات يحتاج المشروع إلى التغلب عليها وهذا ما سيكون إن شاء الله :
تتلخص في كونه مشروعاً طويل المدى فثمرته الربحية لا تُنْتَظر في عقد أو عقدين من الزمان ، الأمر الذي سيجعل الشركاء العالميين والمحليين يتأنون أو يترددون في اتخاذ قرار الدخول فيه ، مما سيضطر الدولة لتبنيه بالكامل أو تبني معظمه ، وهذا يعني حجز جزء من السيولة لمدة ثلاثين عاماً مما سيكون له وبالتأكيد أثره على الواقع الاقتصادي في كثير من المجالات ؛ صحيح أن النصف تريليون سيتم ضخها في المشروع خلال ثلاثين سنة بمتوسط ما يزيد على الخمسة عشر ملياراً سنوياً، وهو مبلغ غير كبير إذا ما قورن بدخل الدولة وموازنتها السنوية ، لكنه حين يتم ضمه إلى التزامات الدولة الأخرى كعقودها الرائدة والولايات المتحدة التي تم توقيعها مؤخرا مع الرئيس ترمب ربما تُشَكِّل وغيرها عبئا مالياً مؤثراً على الحركة الاقتصادية بشكل عام ؛ نعم :هناك توجه لطرح المشروع كأسهم للاكتتاب العالمي ؛ وهذا لو نجح سيجعل تكلفة المشروع ضئيلة جداً جداً بل ربما تصل إلى الصفر ؛ ونجاح الاكتتاب يعني انتصاراً اقتصاديا وسياسيا للمملكة قد يكون غير مسبوق على مستوى العالم؛ وهذا النجاح في حاجة إلى خطة تسويقية مُتَمَهِّلة وذات كلفة دعائية عالية ؛ والمُرَجَّح أنه لن يتم قبل المرحلة الأولى من المشروع أي بعد ثمان سنوات تقريبا لأن الغالب في الاكتتابات الناجحة عالمياً أنها تكون على مشاريع قائمة لا مشاريع واعدة ، ومع ذلك يجب التفكير في احتمالية عدم نجاحه خاصة وأن أسهمه ستكون كثيرة جداً مما سيؤثر بشكل ملحوظ على طلبها وبالتالي على أسعارها.
كما أن طرح ٥٪من أسهم أرامكو للاكتتاب العالمي إذا نجح -وفرص نجاحه أكبر من فرص نجاح الاكتتاب في نيوم بكثير -سوف يغطي الاحتياجات المالية لمشروع نيوم ويزيد كثيرا ؛ وحال التمكن من تغطيته بقيمة اكتتاب أرامكو فستكون تكلفته على الدولة ضئيلة أيضا .
أي أن الدولة بإذن الله إذا نجحت هذه الاكتتابات ستكون قد أنشأت مشروعا متميزاً رائداً بتكلفة تكاد تكون صفرية وأكبر رأس مال لها هو الصبر .
الإخوة الذين سألتهم اتفقوا على نجاح المشروع كفكرة نظرية واتفقوا أيضا على إمكانية التغلب على عقباتها ، وقالوا إن المسؤولية الحقيقية هي في التنفيذ ، فالسعودية لديها خطط خمسية بدأ العمل بها منذ التسعينات الهجرية ، وهي متميزة كخطط ، لكن ثمارها غير موجودة اليوم على أرض الواقع بالشكل الذي تم التخطيط له ؛ وقريب من تلك الخطط تم تطبيقه على أرض الواقع في ماليزيا ونجح في وقت أقل ؛ والسبب يعود إلى الكفاءات التي تقوم على التنفيذ ، فأي مشروع يمتلك رؤية صحيحة وتخطيطاً جيداً وظروفاً آمنة ثم لا ينجح ففشله دون شك أو ريب يعود إلى نقص في كفاءة فريق العمل القائم به ؛ وهذا بالضبط هو ما أعاق الخطط الخمسية السابقة عن الوصول بنا إلى الطموحات التي كنا نعلقها عليها ؛ فمنذ الأزل والثروة الأندر في العالم هي الكفاءات القادرة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(الناس كإبل مئة لا تكاد تجد فيها راحلة)فليست المسؤولية الأكبر والأشق أمام أميرنا الشاب هي المال أو المكان بل الرجال الذين سيتولون رعاية المشروع إلى أن يؤتي ثماره ؛ وأعتقد أن طريقة اختيار القيادات التي كانت تقوم على الثقة والتجربةالمحدودة ينبغي أن تتغير خاصة في هذا المشروع الثقيل جداً ليحل محلها اختيار الكفاءات عبر سيرهم الذاتية وإنجازاتها العملية وقدراتهم القيادية وبرامجهم المستقبلية .
بقيت مسألة الآيديولوجيا وهل من الممكن أن تكون عائقا في مواجهة مشاريع التنمية والتقدم العلمي والتكنولوجيا ؟
فهم البعض أن سمو الأمير يرى ذلك من خلال حديثه عن الصحوة والعودة إلى ما قبل عام ١٩٧٩ وبالنسبة لي لم أفهم شيئا من ذلك فما يسمى بزمن الصحوة له جانبان ينبغي فصل أحدهما عن الآخر ؛ فالجانب الأول هو: التأثر بالأفكار الحركية الثورية التكفيرية المنتسبة إلى جماعات سياسية ذات صبغة دينية كجماعة الإخوان التي خرج من عباءتها وبتأثير فكرها قادة الإرهاب والتطرف في العالم الإسلامي ؛ فهذا الفكر لا شك أنه نَشِطَ فيما بعد عام٧٩بدءاً بحركة جهيمان وانتهاءً بالمنتمين أو المتأثرين بأطروحات القاعدة وداعش ؛ وهذا الجانب من جانبي ما يسمى زمن الصحوة تصدى له أهل العلم والفضل والبحث العلمي في بلادنا حتى إن المؤلفات والتسجيلات التي أصدرها علماء بلادنا وطلبة العلم لدينا في محاربة هذا الفكر تفوق في عددها وتأثيرها وانتشارها جميع ما صدر في دول العالم بأسره ؛ والجهود التي قامت بها مؤسسات الدولة أمنية ودعوية وتربوية وسياسية ودبلوماسية وعسكرية لا يعدلها أي جهود في مقاومة هذا الفكر في العالم ؛ وحديث سمو الأمير لاشك عندي أنه منصب على هذا الجانب ، ولم يجانب قوله الصواب قيد أنملة ؛وكل العقلاء من علماء وطلاب علم وعاملين في النشاط الدعوي هم مع ما قال حرفا بحرف.
الجانب الآخر لتلك الفترة: جانب لا يمكن تحديد بدايته التاريخية بدقة ؛ وهو زمن انقضاء الصدمة الحضارية وانقضاء المد القومي البعثي والناصري والماركسي ، ذلك المد الذي صاحبه -انحسار في التدين بين شباب الخمسينيات والستينيات والسبعينيات ؛ وكان فكراً إرهابياً ثورياً متطرفاً معادياً للدولة ونظام الحكم والدين والأمة؛ وقد قامت الدولة مشكورة مأجورة بمشاريع علمية وتوعوية وتربوية أدت إلى عودة الشباب إلى ما كان عليه منذ تأسيس الدولة حتى قريبا من أواسط الخمسين الميلادية ؛ فيمكن أن يقال:إن عام ١٩٧٩وقبله بقليل شهد عودة الشاب السعودي لما كان عليه في الخمسينيات وما قبلها هذا من حيث أصل التدين وهذا ليس شيئاً جديداً أو مستنكراً أو خارجاً عن إسلامنا ووسطيتنا ؛ ولا أشك أن سمو الأمير لا يقصد هذا الجانب مطلقا .
وهو بعينه الجانب الذي أثنى عليه ملوكنا كالملك فهد الذي يتناقل الناس اليوم له تسجيلاً مطولا بذلك وكذلك العلماء الكبار كالشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحم الله الجميع .
هذه الفترة المصاحبة لعودة التدين شهدت أقوى المشاريع التنموية في بلادنا ؛ فاستحواذ المملكة العربية السعودية على كامل الحصص في أرامكو كان في هذه الفترة ، وكذلك إنشاء الهيئة الملكية في الجبيل وينبع ومدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين ، وإنشاء الشركة السعودية للصناعات الأساسية[سابك]وإنشاء شركات الكهرباء السعودية ثم دمجها في شركة الكهرباء السعودية ؛ كما شهدت العصر الذهبي لصندوق التنمية الصناعي ؛ ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بعد أن كانت مركزاً وطنياً ؛ وغير ذلك من المشاريع الجبارة ؛ فلم تكن العودة إلى التدين أو الفتوى الشرعية عائقا امام اي مشروع تنموي كما لم تكن أبداً سببا في تعثر المشروعات التنموية العديدة التي تعثرت ؛ بل كانت الأسباب ما بين أخطاء في مجموعات العمل أو فساد اداري أو فساد مالي ؛ وسمو الأمير مضطلع وفقه الله بمحاربة هذه الأسباب وتهيئة الأجواء لنهضة تنموية مباركة .
وقد استقبل المواطن السعودي بغاية السرور والحبور لفتة سموه حول الأنظمة التي لن يتم تجاوزها في هذه المدينة وضربه بشرب الخمر مثالاً ؛ فليس فتح مجال العمل والترفيه والتنوع الثقافي في هذه المدينة مبرراً لتجاوز الأحكام الشرعية التي ليس تحريم شرب الخمر وبيعه وحمله إلا مثالاً لها وليس كلها.
أدام الله على بلادنا لباس الدين والأمن والنهضة والرخاء ﴿وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم ثُمَّ لا يَكونوا أَمثالَكم﴾.
د.محمد بن إبراهيم السعيدي
التعليقات