آخر الأخبار
صفحة من التاريخ العباسي
بدءًا من العام الثالث لولاية الخليفة المأمون ٢٠١هـ استجد في الواقع العسكري والسياسي للدولة الإسلامية حدث خطير جداً يشبه في بعض ملامحه الواقع الذي نعيشه اليوم حيث خرج في جنوب أذربيجان دعوة لإحياء الأمجاد الفارسية تمثلت في حركة بابك الخرمي الذي تحالف مع الدولة البيزنطية في الشمال الغربي من الدولة الإسلامية كي يتم التحرك بالتوازي من الجبهتين الشرقية والشمالية للوصول إلى إسقاط الخلافة.
وكأن المأمون كان يرى أن الجبهة البيزنطية أشد خطراً فاكتفى ببعث البعوث لإسقاط حركة بابك ، أما البيزنطيون فكان يتولى قتالهم بنفسه ، وولى محمد بن الرشيد[الخليفة المعتصم فيما بعد] أشد إخوته وقواده بأساً على الإقليم المتاخم لهم وهو الشام ؛ فلم يستطع البيزنطيون التقدم نحو الثغور الإسلامية طيلة حياة المأمون التي انتهت في ثغر طرسوس وهو يقود الجيش المتقدم نحو الروم ؛ ودُفِن هناك وتمت البيعة بالخلافة لأخيه محمد المعتصم بالله الذي عاد بالجيش المجاهد إلى بغداد ، لتتغير الاستراتيجية الدفاعية للدولة فتجعل الأولية لقتال الخُرَّميين الذين استطاعوا احتلال عدد من العواصم الإسلامية في بلاد فارس وعلى رأسها مدينتا أصفهان وهمدان؛ حيث تمكنت دعاية القومية الفارسية التي نادى بها الآذريون أتباعُ بابك أن تجد لها حمية لدى الشعوبيين من الفرس ، كما كان للبطش والدعوة الإباحية التي اختصت بها الحركة البابكية أثرها في تحطيم معنويات أهل البلاد المخلصين لدينهم الحنيف ولدولتهم ؛ فجعل المعتصم قتالهم هو الأولوية لديه إذ رأى_فيما أحسب_أن سلفه المأمون قد ترك البيزنطيين في حالة لا يفكرون معها بالتقدم نحو المسلمين ؛ فبذل المعتصم الأموال والجيوش المتوالية حتى استطاع هزيمة الخرَّميين الذين أحيوا الديانة المزدكية وهددوا الخلافة مدة عشرين عاما ، وتم الحكم على قائدهم بابك بالقتل بعد أن طِيف به في شوارع بغداد سنة ٢٢٣هـ .
وكان بابك لما رآى قرب هزيمته حث الدولة البيزنطية على سرعة الانقضاض من جهتهم رجاء أن يخف ضغط المسلمين عليه ؛ فتقدم الإنبراطور البيزنطي رودفيل بنفسه يقود حملة قوامها مائة ألف مقاتل ليقتحم مدينة زبطرة في شمال الشام ويُعمل السيف في أهلها ، حتى نادت النساء وامعتصماه ؛ لكن هذا العدوان البيزنطي لم يتأت إلا وقد عادت الجيوش إلى سامراء عاصمةِ الخلافة.
هنالك لبس الخليفة لامة الحرب وقاد بنفسه الجيوش حتى اقتحم هضبة الأناضول التي كانت تمثل أعظم ولايات الدولة البيزنطية وافتتح مدينة أنقرة في أقصى أعماق الهضبة ، ثم انعطف جنوبا إلى أعظم مدن البيزنطيين آنذاك مدينة عمورية فحاصرها حتى افتتحها ؛ وعزم أن يزحف بجيشه العرمرم ليحاصر القسطنطينية ويستغل حالة الضعف والانكسار التي أصابت رودفيل وجيشه ليحظى بفضل فتحها .
لكن الروم تم إنقاذهم بأنباء عن اشتداد قوة المازيار محمد بن قارن ؛ وكان مجوسياً فأسلم ثم عاد وارتد وهو أحد الولاة الخونة الذين كانوا يحملون الفكر الشعوبي ضد العرب والمسلمين فحل محل بابك الخرمي مجددا وخرج بطبرستان[أحد أقاليم إيران اليوم] واستولى على ماجاورها جالباً الأتباع إليه ؛ فاكتفى المعتصم بالعودة من الروم ظافراً أشد الظفر ؛ ويعينه ظفره هذا على تحطيم كل الثورات التي قامت ضده في أوقات متقاربة ومنهم المازيار الذي صلب إلى جوار بابك.
ولم تثن هذه المشاغل العسكرية المعتصمَ عن استكمال فتح جزيرة صقلية وفتح جزيرة مالطا لأول مرة ؛ ثم فتح مقاطعة كالابيريا جنوب إيطاليا وذلك على يد بني الأغلب ولاته وولاة أخيه المأمون من قبله على إفريقية[تونس حاليا]؛ ثم بسط نفوذ الدولة وقوتها على بلاد المغرب.
وبالرغم من هذه الحروب في شتى الجبهات إلا أن الدولة في عهده شهدت تقدما اقتصادياً ورخاء مادياً وتفوقا في الزراعة والصناعة والعلوم الشرعية والآداب والطب والعلوم التجريبية على عكس ما هو الحال عليه في الدول التي تشهد حروبا عالية التكاليف .
هذا الخليفة الذي سطر أروع الصفحات في الشدة في حماية الدولة الإسلامية من الروم والشعوبيين من الفرس ومن أدعياء التشيع الذين كان لهم في عهده عدة محاولات لكسر الدولة الإسلامية.
هذا الخليفة هو عينه وليس غيره الذي ظلم كثيراً من العلماء والمؤذنين وأودعهم السجون بغير ذنب اقترفوه إلا أنهم يثبتون صفة الكلام لله عز وجل ؛ وكان شديد الحماس لبدعة نفي صفة الكلام عن الله عز وجل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير إلا لأن ذلك وصية أخيه المأمون ، ولأنه اجتمع حوله عدد من أهل البدع وقليلي الديانة فأثروا على رأيه ؛ كأحمد بن أبي دؤاد ومحمد بن عبدالملك الزيات ، وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب الذي جعله المعتصم نائبا على بغداد أعظمِ عواصم الدنيا في ذلك العصر .
وتجرأ المعتصم على مالم يتجرأ عليه مسلم قبله ولابعده فسجن بالأغلال أعظم علماء الدنيا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي دانت له العلماء في عصره وفي كل العصور بعده بإمامة العلماء بالسنة دون منازع ؛ وأعني أحمد بن حنبل ، وسُحِب الإمام برجله في حضرته وضرب حتى فقد وعيه والمعتصم ينظر ويقول للجلاد اشدد قطع الله يدك.
وكان من عظمة الإمام أحمد رحمه الله أنه كان يوازن بين المصالح والمفاسد ولا ينظر فيها إلى حظ نفسه ؛ وكان يرى ما عليه المعتصم من حفظ الثغور وإقامة مصالح الدنيا والدين ؛ وما يصيبه ويصيب العلماء معه من امتحان في عقائدهم وفتنة في دينهم ، فيترجح عنده أمر الدولة وحفظ الجماعة ويقول والجَرَّاح يقطع قطعةً من لحمه ماتت جراء ما أصابه من الضرب”اللهم اغفر للمعتصم”
وتأتيه رسائل من بعض الخارجين من العلوية تستقطبه فيأباها ويأمر بالجماعة ؛ ويُمنع من التحديث والدرس فيستجيب ؛ وليس كل ذلك إلا لأنه يرى كل ذلك مفاسد تزول بصلاح الراعي أو صلاح الرعية أو بهما معاً ؛ أما الجماعة فمصلحة يزول بزوالها الخير كله .
ولا تلبث الأيام حتى يأتي عصر الخليفة المتوكل ويشهد الإمام أحمد رحمه الله ارتفاع المحنة عن أهل العلم وإقامة السنة وإنصاف المظلومين .
نعم إن هذا المعتصم الذي باشر بنفسه تلك المظالم هو الذي نتغنى اليوم بنجدته وشهامته وغيرته على الإسلام وأهله ولا نفتأ نردد قول أبي ريشة رحمه الله:
رُبَّ وامعتصماه انطلقت
ملء أفواه الصبايا اليُتَّمِ
لامست أسماعهم لكنها
لم تلامس نخوة المعتصمِ
د محمد بن إبراهيم السعيدي
ما شاء الله،فتح الله عليك ابا ابراهيم ما احوج شباب الامة ودعاتها للجلوس والتتلمذ على عبر التاريخ الاسلامي المجيد الملئ بالعبر والمواعظ والدروس .